المادة    
الحمد الله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوة والأخوات! فقد تحدثنا في اللقاء الماضي جملة عن موطن الحضارة ومهد التاريخ، وهي جزيرة العرب التي خرجت منها الهجرات, وانطلقت منها الحضارات القديمة، كما أكد ذلك الباحثون التاريخيون وغيرهم في هذه الأيام, وكلما تقدمت الأيام يزداد ذلك تأكيداً.
وباعتبار أن الذي نرجحه ونقرره أن الكتابة والحضارة سابقة لعهد نوح عليه السلام -ولا شك عندنا أيضاً أن التوحيد سابق كذلك، وأن القرون العشرة الأولى كانت على التوحيد المحض- فهناك حادثة عالمية مشهورة، وهي تشكل قضية من قضايا الفكر العالمي، التي تختلف فيها الآراء والمناهج في بحثها والتوصل فيها إلى المعرفة، ولها علاقة بما مضى؛ وهي حادثة الطوفان. ‏
  1. المقصود بالطوفان

    نحن نسمع كثيراً من علم الجيولوجيا -وهو من العلوم المقررة والواضحة والمنتشرة الآن في المراحل التعليمية المختلفة- أن الجزيرة العربية في الواقع كانت مغطاة بالمياه، وأن العراق كان مغطى -وهذه نظرية تغيرت الآن- إلى الجزء الجنوبي تقريباً بمياه الخليج وغير ذلك، وكل هذا لا يعنينا على الإطلاق في موضوع الطوفان، ولا علاقة له بهذا الموضوع مطلقاً؛ لأن الآماد والأحقاب الطويلة التي يتحدث عنها الجيولوجيون بعيدة كل البعد عن هذا الموضوع؛ فهم يتكلمون عن آماد وعصور وأحقاب قبل أن يوجد الإنسان، وقبل أن يخلقه الله تبارك وتعالى، ويهبطه إلى هذه الأرض، فمثلاً: هم ينسبون بعض الأمور إلى ما قبل الكمبري -والكمبري نسبة إلى وادي كنبري في بريطانيا- والنسبة إليه مرحلة قديمة جداً؛ يعدونها تقريباً بمئات الملايين من السنين؛ فهذه لا علاقة لها بالموضوع.
  2. إجماع الشعوب والحضارات على وقوع الطوفان

    الشاهد أن الطوفان الذي هو بمعنى: الماء الذي أرسله الله تبارك وتعالى عقوبة على قوم نوح؛ بسبب كفرهم وذنبوهم، والحدث الذي يتحدث عنه الناس في مختلف الحضارات والشعوب على أنه حدث يوماً ما للجنس البشري، وأن هناك من نجا منه وهناك من غرق؛ هذا هو المقصود في هذا اللقاء.
    هذا الحادث -وهو الطوفان- مُـجمع عليه تقريباً لدى جميع الشعوب, حتى التي لم يكن بينها أي تواصل أو تلاقي.
    فمثلاً: نجد أن كتاب: قاموس الآلهة والأساطير ألَّفه ثلاثة من الألمان, وهو يتحدث تحت مادة الطوفان المعربة فيقول: إن تصور طوفان عام شامل غطى سطح الأرض هو تصور موجود, ليس فقط في الأساطير الرافدية؛ بل في أساطير حضارات كل الشعوب.
    البعض -وهم الباحثون في الأنتربولوجيا أو بمقارنة ثقافات الشعوب- عندما قالوا: إن الطوفان هو الخرافة المشتركة بين بني البشر فهم يقصدون بذلك: أن أي شعب تذهب إليه تجد عنده حديثاً عن الطوفان، وإن اختلفت هذه الأحاديث؛ حتى الجزر النائية مثل: جزر فيجي أو بعض المناطق في المحيط الهادي -ولعلنا نأتي إلى هذا إن شاء الله- المقصود: أن وجود هذه الحادثة ووقوعها مشترك فعلاً بين البشر.